فصل: تفسير الآية رقم (2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.سورة الحشر:

سورة الحشر مدنية في قول الجميع، وهي أربع وعشرون آية روى ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من قرأ سورة الحشر لم يبق شي من الجنة والنار والعرش والكرسي والسموات والأرض والهوام والريح والسحاب والطير والدواب والشجر والجبال والشمس والقمر والملائكة إلا صلوا عليه واستغفروا له. فإن مات من يومه أو ليلته مات شهيدا». خرجه الثعلبي. وخرج الثعالبي عن يزيد الرقاشي عن أنس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من قرأ آخر سورة الحشر: {لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ} [الحشر: 21]- إلى آخرها- فمات من ليلته مات شهيدا». وروى الترمذي عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرا ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات في يومه مات شهيدا ومن قرأها حين يمسي فكذلك». قال: حديث حسن غريب.

.تفسير الآية رقم (1):

{سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}
تقدم.

.تفسير الآية رقم (2):

{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2)}
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ} قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: قل سورة النضير، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون عليه السلام، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انتظارا لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان من أمرهم ما نص الله عليه.
الثانية: قوله تعالى: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} الحشر الجمع، وهو على أربعة أوجه: حشران في الدنيا وحشران في الآخرة، أما الذي في الدنيا فقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} قال الزهري: كانوا من سبط لم يصبهم جلاء، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء، فلولا ذلك لعذبهم في الدنيا وكان أول حشر حشروا في الدنيا إلى الشام. قال ابن عباس وعكرمة: من شك أن المحشر في الشام فليقرأ هذه الآية، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم: «اخرجوا» قالوا إلى أين؟ قال: «إلى أرض المحشر». قال قتادة: هذا أول المحشر. قال ابن عباس: هم أول من حشر من أهل الكتاب وأخرج من دياره.
وقيل: إنهم أخرجوا إلى خيبر، وأن معنى لِأَوَّلِ الْحَشْرِ إخراجهم من حصونهم إلى خيبر، وآخره إخراج عمر رضي الله عنه إياهم من خيبر إلى نجد وأذرعات. وقيل تيماء وأريحا، وذلك بكفرهم ونقض عهدهم. وأما الحشر الثاني:
فحشرهم قرب القيامة. قال قتادة: تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتأكل منهم من تخلف. وهذا ثابت في الصحيح، وقد ذكرناه في كتاب التذكرة. ونحوه روى ابن وهب عن مالك قال: قلت لمالك هو جلاؤهم من ديارهم؟ فقال لي: الحشر يوم القيامة حشر اليهود. قال: وأجلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اليهود إلى خيبر حين سئلوا عن المال فكتموه، فاستحلهم بذلك. قال ابن العربي: للحشر أول ووسط وآخر، فالأول إجلاء بني النضير، والأوسط إجلاء خيبر، والآخر حشر يوم القيامة. وعن الحسن: هم بنو قريظة. وخالفه بقية المفسرين وقالوا: بنو قريظة ما حشروا ولكنهم قتلوا. حكاه الثعلبي.
الثالثة: قال الكيا الطبري: ومصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير شيء لا يجوز الآن، وإنما كان ذلك في أول الإسلام ثم نسخ. والآن فلا بد من قتالهم أو سبيهم أو ضرب الجزية عليهم. قوله تعالى: {ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} يريد لعظم أمر اليهود ومنعتهم وقوتهم في صدور المسلمين، واجتماع كلمتهم. {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ} قيل: هي الوطيح والنطاة والسلالم والكتيبة. {مِنَ اللَّهِ} أي من أمره. وكانوا أهل حلقة- أي سلاح- كثير- وحصون منيعة، فلم يمنعهم شيء منها. {فَأَتاهُمُ اللَّهُ} أي أمره وعذابه. {مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} أي لم يظنوا.
وقيل: من حيث لم يعلموا.
وقيل: مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا بقتل كعب بن الأشرف، قاله ابن جريج والسدي وأبو صالح. قوله تعالى: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} بقتل سيدهم كعب بن الأشرف، وكان الذي قتله هو محمد بن مسلمة وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش- وكان أخا كعب ابن الأشرف من الرضاعة- وعباد بن بشر بن وقش، والحارث بن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر. وخبره مشهور في السيرة.
وفي الصحيح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «نصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر» فكيف لا ينصر به مسيرة ميل من المدينة إلى محلة بني النضير. وهذه خصيصي لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون غيره.
قوله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ} قراءة العامة بالتخفيف من أخرب، أي يهدمون. وقرأ السلمي والحسن ونصر بن عاصم وأبو العالية وقتادة وأبو عمرو يخربون بالتشديد من التخريب. قال أبو عمرو: إنما اخترت التشديد لان الاخراب ترك الشيء خرابا بغير ساكن، وبنو النضير لم يتركوها خرابا وإنما خربوها بالهدم، يؤيده قوله تعالى: {بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ}.
وقال آخرون: التخريب والاخراب بمعنى واحد، والتشديد بمعنى التكثير.
وحكى سيبويه: أن معنى فعلت وأفعلت يتعاقبان، نحو أخربته وخربته وأفرحته وفرحته. واختار أبو عبيد وأبو حاتم الأولى. قال قتادة والضحاك: كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا، واليهود يخربون من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم. فروي أنهم صالحوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ألا يكونوا عليه ولا له، فلما ظهر يوم بدر قالوا: هو النبي الذي نعت في التوراة، فلا ترد له راية. فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة، فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة، فأمر عليه السلام محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعبا غيلة ثم صبحهم بالكتائب، فقال لهم: اخرجوا من المدينة. فقالوا: الموت أحب إلينا من ذلك، فتنادوا بالحرب.
وقيل: استمهلوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرة أيام ليتجهزوا للخروج، فدس إليهم عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم، ولين أخرجتم لنخرجن معكم. فدربوا على الأزقة وحصنوها إحدى وعشرين ليلة، فلما قذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين طلبوا الصلح، فأبى عليهم إلا الجلاء، على ما يأتي بيانه.
وقال الزهري وابن زيد وعروة بن الزبير: لما صالحهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أن لهم ما أقلت الإبل، كانوا يستحسنون الخشبة والعمود فيهدمون بيوتهم ويحملون ذلك على إبلهم ويخرب المؤمنون باقيها. وعن ابن زيد أيضا: كانوا يخربونها لئلا يسكنها المسلمون بعدهم.
وقال ابن عباس: كانوا كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها ليتسع موضع القتال، وهم ينقبون دورهم من أدبارها إلى التي بعدها ليتحصنوا فيها، ويرموا بالتي أخرجوا منها المسلمين.
وقيل: ليسدوا بها أزقتهم.
وقال عكرمة بِأَيْدِيهِمْ في إخراب دواخلها وما فيها لئلا يأخذه المسلمون. وب أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ في إخراب ظاهرها ليصلوا بذلك إليهم. قال عكرمة: كانت منازلهم مزخرفة فحسدوا المسلمين أن يسكنوها فخربوها من داخل وخربها المسلمون من خارج.
وقيل: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بنقض المواعدة وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ بالمقاتلة، قاله الزهري أيضا.
وقال أبو عمرو بن العلاء بِأَيْدِيهِمْ في تركهم لها. وب أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ في أجلائهم عنها. قال ابن العربي التناول للافساد إذا كان باليد كان حقيقة، وإذا كان بنقض العهد كان مجازا، إلا أن قول الزهري في المجاز أمثل من قول أبي عمرو بن العلاء. قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ} أي اتعظوا يا أصحاب العقول والألباب.
وقيل: يا من عاين ذلك ببصره، فهو جمع للبصر. ومن جملة الاعتبار هنا أنهم اعتصموا بالحصون من الله فأنزلهم الله منها. ومن وجوهه: أنه سلط عليهم من كان ينصرهم. ومن وجوهه أيضا: أنهم هدموا أموالهم بأيديهم. ومن لم يعتبر بغيره اعتبر في نفسه.
وفي الأمثال الصحيحة: السعيد من وعظ بغيره.

.تفسير الآيات (3- 4):

{وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)}
قوله تعالى: {وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ} أي لولا أنه قضى أنه سيجليهم عن دارهم وأنهم يبقون مدة فيؤمن بعضهم ويولد لهم من يؤمن. {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا} أي بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة. والجلاء مفارقة الوطن يقال: جلا بنفسه جلاء، وأجلاه غيره إجلاء. والفرق بين الجلاء والإخراج وإن كان معناهما في الابعاد واحدا من وجهين: أحدهما- أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد.
الثاني- أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج يكون لواحد ولجماعة، قاله الماوردي. قوله تعالى: {ذلِكَ} أي ذلك الجلاء {بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ} أي عادوه وخالفوا أمره. {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ} قرأ طلحة بن مصرف ومحمد بن السميقع {ومن يشاقق الله} بإظهار التضعيف كالتي في الأنفال، وأدغم الباقون.

.تفسير الآية رقم (5):

{ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} ما في محل نصب ب قَطَعْتُمْ، كأنه قال: أي شيء قطعتم. وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزل على حصون بني النضير- وهي البؤيرة- حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أحد، أمر بقطع نخيلهم وإحراقها. واختلفوا في عدد ذلك، فقال قتادة والضحاك: إنهم قطعوا من نخيلهم وأحرقوا ست نخلات.
وقال محمد بن إسحاق: إنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة. وكان ذلك عن إقرار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بأمره، إما لاضعافهم بها وإما لسعة المكان بقطعها. فشق ذلك عليهم فقالوا- وهم يهود أهل الكتاب-: يا محمد، الست تزعم أنك نبي تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع الخل وحرق الشجر؟ وهل وجدت فيما أنزل الله عليك إباحة الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ووجد المؤمنون في أنفسهم حتى اختلفوا، فقال بعضهم: لا تقطعوا مما أفاء الله علينا.
وقال بعضهم: اقطعوا لنغيظهم بذلك. فنزلت الآية بتصديق من نهى عن القطع وتحليل من قطع من الإثم، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله.
وقال شاعرهم سماك اليهودي في ذلك:
ألسنا ورثنا الكتاب الحكيم ** على عهد موسى ولم نصدف

وأنتم رعاء الشاء عجاف ** بسهل تهامة والأخيف

ترون الرعاية مجدا لكم ** لدى كل دهر لكم مجحف

فيا أيها الشاهدون انتهوا ** عن الظلم والمنطق المؤنف

لعل الليالي وصرف الدهور ** يدلن من العادل المنصف

بقتل النضير وإجلائها ** وعقر النخيل ولم تقطف

فأجابه حسان بن ثابت:
تفاقد معشر نصروا قريشا ** وليس لهم ببلدتهم نصير

همو أوتوا الكتاب فضيعوه ** وهم عمي عن التوراة بور

كفرتم بالقران وقد أبيتم ** بتصديق الذي قال النذير

وهان على سراة بني لوي ** حريق بالبويرة مستطير

فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:
أدام الله ذلك من صنيع ** وحرق في نواحيها السعير

ستعلم أينا منها بنزه ** ونعلم أي أرضينا تصير

فلو كان النخيل بها ركابا ** لقالوا لا مقام لكم فسيروا

الثانية: كان خروج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم في ربيع الأول أول السنة الرابعة من الهجرة، وتحصنوا منه في الحصون، وأمر بقطع النخل وإحراقها، وحينئذ نزل تحريم الخمر. ودس عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المنافقين إلى بني النضير: إنا معكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فاغتروا بذلك. فلما جاءت الحقيقة خذلوهم وأسلموهم وألقوا بأيديهم، وسألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكف عن دمائهم ويجليهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فاحتملوا كذلك إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام. وكان ممن سار منهم إلى خيبر أكابرهم، كحيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع. فدانت لهم خيبر.
الثالثة: ثبت في صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطع نخل بني النضير وحرق. ولها يقول حسان:
وهان على سراة بني لوي ** حريق بالبويرة مستطير

وفي ذلك نزلت: {ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} الآية. واختلف الناس في تخريب دار العدو وتحريقها وقطع ثمارها على قولين: الأول- أن ذلك جائز، قال في المدونة.
الثاني- إن علم المسلمون أن ذلك لهم لم يفعلوا، وإن يئسوا فعلوا، قاله مالك في الواضحة. وعليه يناظر أصحاب الشافعي. ابن العربي: والصحيح الأول. وقد علم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نخل بني النضير له، ولكنه قطع وحرق ليكون ذلك نكاية لهم ووهنا فيهم حتى يخرجوا عنها. وإتلاف بعض المال لصلاح باقيه مصلحة جائزة شرعا، مقصودة عقلا.
الرابعة: قال الماوردي: إن في هذه الآية دليلا على أن كل مجتهد مصيب. وقاله الكيا الطبري قال: وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرهم، ولا شك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأي ذلك وسكت، فتلقوا الحكم من تقريره فقط. قال ابن العربي: وهذا باطل، لان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان معهم، ولا اجتهاد مع حضور رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما يدل على اجتهاد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما لم ينزل عليه، أخذا بعموم الأذية للكفار، ودخولا في الاذن للكل بما يقضي عليهم بالاجتياح والبوار، وذلك قوله تعالى: {وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ}.
الخامسة: اختلف في اللينة ما هي، على أقوال عشرة: الأول- النخل كله إلا العجوة، قاله الزهري ومالك وسعيد بن جبير وعكرمة والخليل. وعن ابن عباس ومجاهد والحسن: أنها النخل كله، ولم يستثنوا عجوة ولا غيرها. وعن ابن عباس أيضا: أنها لون من النخل. وعن الثوري: أنها كرام النخل. وعن أبي عبيدة: أنها جميع ألوان التمر سوى العجوة والبرني.
وقال جعفر بن محمد: إنها العجوة خاصة. وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح عليه السلام في السفينة. والعتيق: الفحل. وكانت العجوة أصل الإناث كلها فلذلك شق على اليهود قطعها، حكاه الماوردي.
وقيل: هي ضرب من النخل يقال لتمره: اللون، تمره أجود التمر، وهو شديد الصفرة، يرى نواه من خارجه ويغيب فيه الضرس، النخلة منها أحب إليهم من وصيف.
وقيل: هي النخلة القريبة من الأرض. وأنشد الأخفش.
قد شجاني الحمام حين تغنى ** بفراق الأحباب من فوق لينه

وقيل: إن اللينة الفسيلة، لأنها ألين من النخلة. ومنه قول الشاعر:
غرسوا لينها بمجرى معين ** ثم حفوا النخيل بالآجام

وقيل: إن اللينة الأشجار كلها للينها بالحياة، قال ذو الرمة:
طراق الخوافي واقع فوق لينة ** ندى ليله في ريشه يترقرق

والقول العاشر- أنها الدقل، قاله الأصمعي. قال: واهل المدينة يقولون لا تنتفخ الموائد حتى توجد الألوان، يعنون الدقل. قال ابن العربي: والصحيح ما قاله الزهري ومالك لوجهين: أحدهما- أنهما أعرف ببلدهما وأشجارهما.
الثاني- أن الاشتقاق يعضده، واهل اللغة يصححونه، فإن اللينة وزنها لونه، واعتلت على أصولهم فآلت إلى لينة فهي لون، فإذا دخلت الهاء كسر أولها، كبرك الصدر بفتح الباء وبركه بكسرها لأجل الهاء. وقيل لينة أصلها لونه فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وجمع اللينة لين.
وقيل: ليان، قال امرؤ القيس يصف عنق فرسه:
وسالفة كسحوق الليا ** ن أضرم فيها الغوي السعر

وقال الأخفش: إنما سميت لينة اشتقاقا من اللون لا من اللين. المهدوي: واختلف في اشتقاقها، فقيل: هي من اللون واصلها لونه. وقيل أصلها لينة من لان يلين. وقرأ عبد الله {ما قطعتم من لينة ولا تركتم قوماء على أصولها} أي قائمة على سوقها. وقرأ الأعمش {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قوما على أصولها} المعنى لم تقطعوها. وقرئ: {قوماء على أصلها}. وفية وجهان: أحدهما- أنه جمع أصل، كرهن ورهن. والثاني- اكتفي فيه بالضمة عن الواو. وقرئ: {قائما على أصوله} ذهابا إلى لفظ ما. فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمره وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ أي ليذل اليهود الكفار به وبنبيه وكتبه.